فصل: تفسير الآيات (1- 30):

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: فتح القدير الجامع بين فني الرواية والدراية من علم التفسير (نسخة منقحة)



.تفسير الآيات (19- 20):

{إِنَّ هَذِهِ تَذْكِرَةٌ فَمَنْ شَاءَ اتَّخَذَ إِلَى رَبِّهِ سَبِيلًا (19) إِنَّ رَبَّكَ يَعْلَمُ أَنَّكَ تَقُومُ أَدْنَى مِنْ ثُلُثَيِ اللَّيْلِ وَنِصْفَهُ وَثُلُثَهُ وَطَائِفَةٌ مِنَ الَّذِينَ مَعَكَ وَاللَّهُ يُقَدِّرُ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ عَلِمَ أَنْ لَنْ تُحْصُوهُ فَتَابَ عَلَيْكُمْ فَاقْرَءُوا مَا تَيَسَّرَ مِنَ الْقُرْآَنِ عَلِمَ أَنْ سَيَكُونُ مِنْكُمْ مَرْضَى وَآَخَرُونَ يَضْرِبُونَ فِي الْأَرْضِ يَبْتَغُونَ مِنْ فَضْلِ اللَّهِ وَآَخَرُونَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَاقْرَءُوا مَا تَيَسَّرَ مِنْهُ وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَآَتُوا الزَّكَاةَ وَأَقْرِضُوا اللَّهَ قَرْضًا حَسَنًا وَمَا تُقَدِّمُوا لِأَنْفُسِكُمْ مِنْ خَيْرٍ تَجِدُوهُ عِنْدَ اللَّهِ هُوَ خَيْرًا وَأَعْظَمَ أَجْرًا وَاسْتَغْفِرُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (20)}
الإشارة بقوله: {إِنَّ هذه} إلى ما تقدّم من الآيات، والتذكرة الموعظة، والإشارة إلى جميع آيات القرآن، لا إلى ما في هذه السورة فقط {فَمَن شَاء اتخذ إلى رَبّهِ سَبِيلاً} أي: اتخذ بالطاعة التي أهم أنواعها التوحيد إلى ربه طريقاً توصله إلى الجنة. {إِنَّ رَبَّكَ يَعْلَمُ أَنَّكَ تَقُومُ أدنى مِن ثُلُثَىِ اليل} معنى {أدنى}: أقلّ، استعير له الأدنى؛ لأن المسافة بين السنين إذا دنت قلّ ما بينهما {وَنِصْفَهُ} معطوف على أدنى {وَثُلُثَهُ} معطوف على نصفه، والمعنى: أن الله يعلم أن رسوله صلى الله عليه وسلم يقوم أقلّ من ثلثي الليل، ويقوم نصفه، ويقوم ثلثه، وبالنصب قرأ ابن كثير، والكوفيون، وقرأ الجمهور: {ونصفه وثلثه} بالجر عطفاً على ثلثي الليل، والمعنى: أن الله يعلم أن رسوله يقوم أقلّ من ثلثي الليل، وأقلّ من نصفه، وأقلّ من ثلثه، واختار قراءة الجمهور أبو عبيد وأبو حاتم لقوله: {عَلِمَ أَن لَّن تُحْصُوهُ} فكيف يقومون نصفه وثلثه وهم لا يحصونه.
وقال الفرّاء: القراءة الأولى أشبه بالصواب؛ لأنه قال: أقلّ من ثلثي الليل، ثم فسر نفس القلة {وَطَائِفَةٌ مّنَ الذين مَعَكَ} معطوف على الضمير في تقوم: أي: وتقوم ذلك القدر معك طائفة من أصحابك.
{والله يُقَدّرُ اليل والنهار} أي: يعلم مقادير الليل والنهار على حقائقها، ويختص بذلك دون غيره، وأنتم لا تعلمون ذلك على الحقيقة. قال عطاء: يريد لا يفوته علم ما تفعلون. أي: أنه يعلم مقادير الليل والنهار، فيعلم قدر الذي تقومونه من الليل {عَلِمَ أَن لَّن تُحْصُوهُ} أن لن تطيقوا علم مقادير الليل والنهار على الحقيقة، وفي أن ضمير شأن محذوف. وقيل المعنى: لن تطيقوا قيام الليل. قال القرطبي: والأوّل أصحّ، فإن قيام الليل ما فرض كله قط، قال مقاتل وغيره: لما نزل: {قُمِ اليل إِلاَّ قَلِيلاً * نّصْفَهُ أَوِ انقص مِنْهُ قَلِيلاً * أَوْ زِدْ عَلَيْهِ} [المزمل: 2 4] شقّ ذلك عليهم، وكان الرجل لا يدري متى نصف الليل من ثلثه، فيقوم حتى يصبح مخافة أن يخطئ، فانتفخت أقدامهم، وانتقعت ألوانهم، فرحمهم الله، وخفف عنهم فقال: {عَلِمَ أَن لَّن تُحْصُوهُ} أي: علم أن لن تحصوه؛ لأنكم إن زدتم ثقل عليكم واحتجتم إلى تكلف ما ليس فرضاً، وإن نقصتم شق ذلك عليكم. {فَتَابَ عَلَيْكُمْ} أي: فعاد عليكم بالعفو، ورخص لكم في ترك القيام. وقيل: فتاب عليكم من فرض القيام إذا عجزتم، وأصل التوبة الرجوع، كما تقدّم؛ فالمعنى: رجع بكم من التثقيل إلى التخفيف، ومن العسر إلى اليسر.
{فاقرءوا مَا تَيَسَّرَ مِنَ القرءان} أي فاقرءوا في الصلاة بالليل ما خف عليكم، وتيسّر لكم منه من غير أن ترقبوا وقتاً.
قال الحسن: هو ما نقرأ في صلاة المغرب والعشاء. قال السديّ: ما تيسّر منه هو مائة آية. قال الحسن: أيضاً من قرأ مائة آية في ليلة لم يحاجه القرآن.
وقال كعب: من قرأ في ليلة مائة آية كتب من القانتين.
وقال سعيد: خمسون آية. وقيل: معنى {فاقرءوا مَا تَيَسَّرَ مِنْهُ}: فصلوا ما تيسّر لكم من صلاة الليل، والصلاة تسمى قرآناً، كقوله: و{أَقِمِ الصلاة} [الإسراء: 78]. قيل: إن هذه الآية نسخت قيام الليل ونصفه، والنقصان من النصف والزيادة عليه، فيحتمل أن يكون ما تضمنته هذه الآية فرضاً ثابتاً، ويحتمل أن يكون منسوخاً لقوله: {وَمِنَ اليل فَتَهَجَّدْ بِهِ نَافِلَةً لَّكَ عسى أَن يَبْعَثَكَ رَبُّكَ مَقَاماً مَّحْمُودًا} [الإسراء: 79]. قال الشافعي: الواجب طلب الاستدلال بالسنة على أحد المعنيين. فوجدنا سنة رسول الله تدلّ على أن لا واجب من الصلاة إلاّ الخمس.
وقد ذهب قوم إلى أن قيام الليل نسخ في حقه وفي حق أمته. وقيل: نسخ التقدير بمقدار وبقي أصل الوجوب. وقيل: إنه نسخ في حق الأمة، وبقي فرضاً في حقه، والأولى القول بنسخ قيام الليل على العموم في حقه وفي حق أمته، وليس في قوله: {فاقرءوا مَا تَيَسَّرَ مِنْهُ} ما يدل على بقاء شيء من الوجوب؛ لأنه إن كان المراد به القراءة من القرآن، فقد وجدت في صلاة المغرب والعشاء وما يتبعهما من النوافل المؤكدة، وإن كان المراد به الصلاة من الليل، فقد وجدت صلاة الليل بصلاة المغرب والعشاء وما يتبعهما من التطوّع. وأيضاً الأحاديث الصحيحة المصرّحة بقول السائل لرسول الله صلى الله عليه وسلم هل عليّ غيرها، يعني: الصلوات الخمس؟ فقال: «لا، إلاّ أن تطوّع» تدل على عدم وجوب غيرها. فارتفع بهذا وجوب قيام الليل، وصلاته على الأمة، كما ارتفع وجوب ذلك على النبيّ صلى الله عليه وسلم بقوله: {وَمِنَ اليل فَتَهَجَّدْ بِهِ نَافِلَةً لَّكَ}، قال الواحدي: قال المفسرون في قوله: {فاقرءوا مَا تَيَسَّرَ مِنْهُ} كان هذا في صدر الإسلام، ثم نسخ بالصلوات الخمس عن المؤمنين، وثبت على النبيّ صلى الله عليه وسلم خاصة، وذلك قوله: {وأقيموا الصلاة}.
ثم ذكر سبحانه عذرهم فقال: {عَلِمَ أَن سَيَكُونُ مِنكُمْ مرضى} فلا يطيقون قيام الليل {وآخرون يضربون في الأرض يبتغون من فضل الله} أي: يسافرون فيها للتجارة والأرباح يطلبون من رزق الله ما يحتاجون إليه في معاشهم فلا يطيقون قيام الليل {وآخرون يقاتلون في سبيل الله} يعني: المجاهدين، فلا يطيقون قيام الليل. ذكر سبحانه ها هنا ثلاثة أسباب مقتضية للترخيص، ورفع وجوب قيام الليل، فرفعه عن جميع الأمة لأجل هذه الأعذار التي تنوب بعضهم. ثم ذكر ما يفعلونه بعد هذا الترخيص فقال: {فاقرءوا مَا تَيَسَّرَ مِنْهُ} وقد سبق تفسيره قريباً، والتكرير للتأكيد {وأقيموا الصلاة} يعني: المفروضة، وهي الخمس لوقتها {وآتوا الزكاة} يعني: الواجبة في الأموال.
وقال الحارث العكلي: هي صدقة الفطر؛ لأن زكاة الأموال وجبت بعد ذلك. وقيل: صدقة التطوّع. وقيل: كل أفعال الخير {وَأَقْرِضُواُ الله قَرْضاً حَسَناً} أي: أنفقوا في سبيل الخير من أموالكم إنفاقاً حسناً، وقد مضى تفسيره في سورة الحديد. قال زيد بن أسلم: القرض الحسن النفقة على الأهل. وقيل: النفقة في الجهاد، وقيل: هو إخراج الزكاة المفترضة على وجه حسن، فيكون تفسيراً لقوله: {وآتوا الزكاة} والأوّل أولى لقوله: {وَمَا تُقَدّمُواْ لأَنْفُسِكُم مّنْ خَيْرٍ تَجِدُوهُ عِندَ الله} فإن ظاهره العموم، أي: أيّ خير كان مما ذكر ومما لم يذكر {هُوَ خَيْراً وَأَعْظَمَ أَجْراً} مما تؤخرونه إلى عند الموت، أو توصون به ليخرج بعد موتكم، وانتصاب {خيراً} على أنه ثاني مفعولي تجدوه، وضمير هو ضمير فصل، وبالنصب قرأ الجمهور، وقرأ أبو السماك، وابن السميفع بالرفع على أن يكون هو مبتدأ، وخير خبره، والجملة في محل نصب على أنها ثاني مفعولي تجدوه. قال أبو زيد: وهي لغة تميم يرفعون ما بعد ضمير الفصل، وأنشد سيبويه:
تحنّ إلى ليلى وأنت تركتها ** وكنت عليها بالملاء أنت أقدر

وقرأ الجمهور أيضاً: {وأعظم} بالنصب عطفاً على {خيراً}، وقرأ أبو السماك، وابن السميفع بالرفع، كما قرأ برفع {خير}، وانتصاب {أجراً} على التمييز {واستغفروا الله} أي: اطلبوا منه المغفرة لذنوبكم، فإنكم لا تخلون من ذنوب تقترفونها {إِنَّ الله غَفُورٌ رَّحِيمٌ} أي: كثير المغفرة لمن استغفره، كثير الرحمة لمن استرحمه.
وقد أخرج ابن أبي حاتم، وابن مردويه، والطبراني عن ابن عباس، عن النبي صلى الله عليه وسلم {فاقرءوا مَا تَيَسَّرَ مِنْهُ}. قال: «مائة آية».
وأخرج الدراقطني، والبيهقي في سننه، وحسناه عن قيس بن أبي حازم قال: صليت خلف ابن عباس، فقرأ في أوّل ركعة بالحمد لله ربّ العالمين، وأوّل آية من البقرة، ثم ركع، فلما انصرفنا أقبل علينا، فقال: إن الله يقول: {فاقرءوا مَا تَيَسَّرَ مِنْهُ} قال ابن كثير: وهذا حديث غريب جداً لم أره إلاّ في معجم الطبراني.
وأخرج أحمد، والبيهقي في سننه عن أبي سعيد قال: «أمرنا رسول الله صلى الله عليه وسلم أن نقرأ بفاتحة الكتاب وما تيسّر».
وقد قدّمنا في البحث الأوّل من هذه السورة ما روي أن هذه الآيات المذكورة هنا هي الناسخة لوجوب قيام الليل، فارجع إليه.

.سورة المدثر:

هي ست وخمسون آية.
وهي مكية بلا خلاف.
وأخرج ابن الضريس والنحاس وابن مردويه والبيهقي عن ابن عباس قال: نزلت سورة المدثر بمكة.
وأخرج ابن مردويه عن ابن الزبير مثله.
وسيأتي أن أول هذه السورة أول ما نزل من القرآن.

.تفسير الآيات (1- 30):

{يَا أَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ (1) قُمْ فَأَنْذِرْ (2) وَرَبَّكَ فَكَبِّرْ (3) وَثِيَابَكَ فَطَهِّرْ (4) وَالرُّجْزَ فَاهْجُرْ (5) وَلَا تَمْنُنْ تَسْتَكْثِرُ (6) وَلِرَبِّكَ فَاصْبِرْ (7) فَإِذَا نُقِرَ فِي النَّاقُورِ (8) فَذَلِكَ يَوْمَئِذٍ يَوْمٌ عَسِيرٌ (9) عَلَى الْكَافِرِينَ غَيْرُ يَسِيرٍ (10) ذَرْنِي وَمَنْ خَلَقْتُ وَحِيدًا (11) وَجَعَلْتُ لَهُ مَالًا مَمْدُودًا (12) وَبَنِينَ شُهُودًا (13) وَمَهَّدْتُ لَهُ تَمْهِيدًا (14) ثُمَّ يَطْمَعُ أَنْ أَزِيدَ (15) كَلَّا إِنَّهُ كَانَ لِآَيَاتِنَا عَنِيدًا (16) سَأُرْهِقُهُ صَعُودًا (17) إِنَّهُ فَكَّرَ وَقَدَّرَ (18) فَقُتِلَ كَيْفَ قَدَّرَ (19) ثُمَّ قُتِلَ كَيْفَ قَدَّرَ (20) ثُمَّ نَظَرَ (21) ثُمَّ عَبَسَ وَبَسَرَ (22) ثُمَّ أَدْبَرَ وَاسْتَكْبَرَ (23) فَقَالَ إِنْ هَذَا إِلَّا سِحْرٌ يُؤْثَرُ (24) إِنْ هَذَا إِلَّا قَوْلُ الْبَشَرِ (25) سَأُصْلِيهِ سَقَرَ (26) وَمَا أَدْرَاكَ مَا سَقَرُ (27) لَا تُبْقِي وَلَا تَذَرُ (28) لَوَّاحَةٌ لِلْبَشَرِ (29) عَلَيْهَا تِسْعَةَ عَشَرَ (30)}
قال الواحدي: قال المفسرون: لما بدئ رسول الله صلى الله عليه وسلم بالوحي أتاه جبريل، فرآه رسول الله صلى الله عليه وسلم على سرير بين السماء والأرض كالنور المتلأليء، ففزع ووقع مغشياً عليه، فلما أفاق دخل على خديجة، ودعا بماء، فصبه عليه، وقال: «دثروني دثروني»، فدثروه بقطيفة، فقال: {يأَيُّهَا المدثر * قُمْ فَأَنذِرْ} ومعنى {يأَيُّهَا المدثر}: يا أيها الذي قد تدثر بثيابه، أي: تغشى بها، وأصله المتدثر، فأدغمت التاء في الدال لتجانسهما.
وقد قرأ الجمهور بالإدغام، وقرأ أبي: {المتدثر} على الأصل، والدثار: هو ما يلبس فوق الشعار، والشعار: هو الذي يلي الجسد، وقال عكرمة: المعنى: يا أيها المدثر بالنبوّة وأثقالها. قال ابن العربي: وهذا مجاز بعيد لأنه لم يكن نبياً إذ ذاك {قُمْ فَأَنذِرْ} أي: انهض فخوّف أهل مكة وحذرهم العذاب إن لم يسلموا، أو قم من مضجعك، أو قم قيام عزم وتصميم. وقيل: الإنذار هنا هو إعلامهم بنبوّته. وقيل: إعلامهم بالتوحيد.
وقال الفراء: المعنى قم فصلّ، وأمر بالصلاة {وَرَبَّكَ فَكَبّرْ} أي: واختص سيدك ومالكك ومصلح أمورك بالتكبير، وهو وصفه سبحانه بالكبرياء والعظمة، وأنه أكبر من أن يكون له شريك كما يعتقده الكفار، وأعظم من أن يكون له صاحبة أو ولد. قال ابن العربي: المراد به تكبير التقديس والتنزيه بخلع الأضداد والأنداد والأصنام، ولا يتخذ ولياً غيره ولا يعبد سواه، ولا يرى لغيره فعلاً إلاّ له ولا نعمة إلاّ منه. قال الزجاج: إن الفاء في: {فكبر} دخلت على معنى الجزاء، كما دخلت في: {فأنذر}.
وقال ابن جني: هو كقولك: زيداً فاضرب أي: زيداً اضرب، فالفاء زائدة. {وَثِيَابَكَ فَطَهّرْ} المراد بها الثياب الملبوسة على ما هو المعنى اللغوي، أمره الله سبحانه بتطهير ثيابه، وحفظها عن النجاسات، وإزالة ما وقع فيها منها. وقيل: المراد بالثياب العمل. وقيل: القلب. وقيل: النفس. وقيل: الجسم. وقيل: الأهل. وقيل: الدين. وقيل: الأخلاق. قال مجاهد، وابن زيد، وأبو رزين، أي: عملك فأصلح.
وقال قتادة: نفسك فطهّر من الذنب، والثياب عبارة عن النفس.
وقال سعيد بن جبير: قلبك فطهّر، ومن هذا قول امرئ القيس:
فسلي ثيابي من ثيابك تنسل

وقال عكرمة: المعنى البسها على غير غدر وغير فجرة. وقال: أما سمعت قول الشاعر:
وإني بحمد الله لا ثوب فاجر ** لبست ولا من غدرة أتقنع

والشاعر هو غيلان بن سلمة الثقفي، ومن إطلاق الثياب على النفس قول عنترة:
فشككت بالرمح الطويل ثيابه ** ليس الكريم على القنا بمحرم

وقول الآخر:
ثياب بني عوف طهارى نقية

وقال الحسن، والقرظي: إن المعنى، وأخلاقك فطهّر؛ لأن خلق الإنسان مشتمل على أحواله اشتمال ثيابه على نفسه، ومنه قول الشاعر:
ويحيى لا يلام بسوء خلق ** ويحيى طاهر الأثواب حر

وقال الزجاج: المعنى، وثيابك فقصر؛ لأن تقصير الثوب أبعد من النجاسات إذا انجرّ على الأرض، وبه قال طاوس، والأوّل أولى؛ لأنه المعنى الحقيقي. وليس في استعمال الثياب مجاز عن غيرها لعلاقة مع قرينة ما يدلّ على أنه المراد عند الإطلاق، وليس في مثل هذا الأصل: أعني الحمل على الحقيقة عند الإطلاق خلاف، وفي الآية دليل على وجوب طهارة الثياب في الصلاة. {والرجز فاهجر} الرجز: معناه في اللغة: العذاب، وفيه لغتان: كسر الراء وضمها، وسمي الشرك وعبادة الأوثان رجزاً؛ لأنها سبب الرجز. قرأ الجمهور: {الرجز} بكسر الراء. وقرأ الحسن، ومجاهد، وعكرمة، وحفص، وابن محيصن بضمها.
وقال مجاهد، وعكرمة: الرجز: الأوثان، كما في قوله: {فاجتنبوا الرجس مِنَ الأوثان} [الحج: 30] وبه قال ابن زيد.
وقال إبراهيم النخعي: الرجز المأثم، والهجر الترك.
وقال قتادة: الرجز إساف ونائلة، وهما صنمان كانا عند البيت.
وقال أبو العالية، والربيع، والكسائي: الرجز بالضم الوثن، وبالكسر العذاب.
وقال السديّ: الرجز بضم الراء الوعيد، والأوّل أولى {وَلاَ تَمْنُن تَسْتَكْثِرُ} قرأ الجمهور: {ولا تمنن} بفك الإدغام، وقرأ الحسن، وأبو اليمان، والأشهب العقيلي بالإدغام، وقرأ الجمهور: {تستكثر} بالرفع على أنه حال، أي: ولا تمنن حال كونك مستكثراً. وقيل: على حذف أن، والأصل ولا تمنن أن تستكثر، فلما حذفت رفع. قال الكسائي: فإذا حذف أن رفع الفعل. وقرأ يحيى بن وثاب، والأعمش: {تستكثر} بالنصب على تقدير أن، وبقاء عملها، ويؤيد هذه القراءة قراءة ابن مسعود: {ولا تمنن أن تستكثر} بزيادة أن. وقرأ الحسن أيضاً، وابن أبي عبلة: {تستكثر} بالجزم على أنه بدل من تمنن، كما في قوله: {يَلْقَ أَثَاماً * يضاعف لَهُ} [الفرقان: 68، 69]، وقول الشاعر:
متى تأتنا تلمم بنا في ديارنا ** تجد حطباً جزلاً وناراً تأججا

أو الجزم لإجراء الوصل مجرى الوقف، كما في قول امرئ القيس:
فاليوم أشرب غير مستحقب ** إثماً من الله ولا واغل

بتسكين أشرب.
وقد اعترض على هذه القراءة؛ لأن قوله: {تستكثر} لا يصح أن يكون بدلاً من تمنن؛ لأن المنّ غير الاستكثار، ولا يصح أن يكون جواباً للنهي.
واختلف السلف في معنى الآية. فقيل المعنى: لا تمنن على ربك بما تتحمله من أعباء النبوّة كالذي يستكثر ما يتحمله بسبب الغير. وقيل: لا تعط عطية تلتمس فيها أفضل منها، قاله عكرمة، وقتادة. قال الضحاك: هذا حرّمه الله على رسوله؛ لأنه مأمور بأشرف الآداب وأجلّ الأخلاق، وأباحه لأمته.
وقال مجاهد: لا تضعف أن تستكثر من الخير، من قولك حبل متين: إذا كان ضعيفاً.
وقال الربيع بن أنس: لا تعظم عملك في عينك أن تستكثر من الخير.
وقال ابن كيسان: لا تستكثر عملاً فتراه من نفسك، إنما عملك منة من الله عليك إذ جعل لك سبيلاً إلى عبادته. وقيل: لا تمنن بالنبوّة، والقرآن على الناس، فتأخذ منهم أجراً تستكثره.
وقال محمد بن كعب: لا تعط مالك مصانعة.
وقال زيد بن أسلم: إذا أعطيت عطية فأعطها لربك.
{وَلِرَبّكَ فاصبر} أي: لوجه ربك، فاصبر على طاعته وفرائضه، والمعنى: لأجل ربك وثوابه.
وقال مقاتل، ومجاهد: اصبر على الأذى والتكذيب.
وقال ابن زيد: حملت أمراً عظيماً، فحاربتك العرب والعجم، فاصبر عليه لله. وقيل: اصبر تحت موارد القضاء لله. وقيل: فاصبر على البلوى. وقيل: على الأوامر والنواهي. {فَإِذَا نُقِرَ في الناقور} الناقور: فاعول من النقر، كأنه من شأنه أن ينقر فيه للتصويت، والنقر في كلام العرب الصوت، ومنه قول امرئ القيس:
أخفضه بالنقر لما علوته

ويقولون: نقر باسم الرجل: إذا دعاه، والمراد هنا النفخ في الصور، والمراد: النفخة الثانية. وقيل: الأولى، وقد تقدّم الكلام في هذا في سورة الأنعام وسورة النحل، والفاء للسببية، كأنه قيل: اصبر على أذاهم، فبين أيديهم يوم هائل يلقون فيه عاقبة أمرهم، والعامل في إذا ما دلّ عليه قوله: {فَذَلِكَ يَوْمَئِذٍ يَوْمٌ عَسِيرٌ * عَلَى الكافرين} فإن معناه: عسر الأمر عليهم. وقيل: العامل فيه ما دل عليه {فَذَلِكَ} لأنه إشارة إلى النقر، ويومئذٍ بدل من إذا، أو مبتدأ، وخبره يوم عسير، والجملة خبر {فذلك}، وقيل: هو ظرف للخبر؛ لأن التقدير وقوع يوم عسير، وقوله: {غَيْرُ يَسِيرٍ} تأكيد لعسره عليهم؛ لأن كونه غير يسير، قد فهم من قوله: {يَوْمٌ عَسِيرٌ}. {ذَرْنِى وَمَنْ خَلَقْتُ وَحِيداً} أي: دعني، وهي كلمة تهديد ووعيد، والمعنى: دعني والذي خلقته حال كونه وحيداً في بطن أمه لا مال له ولا ولد، هذا على أن وحيداً منتصب على الحال من الموصول، أو من الضمير العائد إليه المحذوف، ويجوز أن يكون حالاً من الياء في ذرني، أي: دعني وحدي معه، فإني أكفيك في الانتقام منه، والأوّل أولى. قال المفسرون: وهو الوليد بن المغيرة. قال مقاتل: يقول: خلّ بيني وبينه، فأنا أنفرد بهلكته، وإنما خص بالذكر لمزيد كفره، وعظيم جحوده لنعم الله عليه. وقيل: أراد بالوحيد الذي لا يعرف أبوه، وكان يقال في الوليد بن المغيرة: إنه دعيّ.
{وَجَعَلْتُ لَهُ مَالاً مَّمْدُوداً} أي: كثيراً، أو يمدّ بالزيادة والنماء شيئًا بعد شيء. قال الزجاج: مالاً غير منقطع عنه، وقد كان الوليد بن المغيرة مشهوراً بكثرة المال على اختلاف أنواعه. قيل: كان يحصل له من غلة أمواله ألف ألف دينار. وقيل: أربعة آلاف دينار. وقيل: ألف دينار. {وَبَنِينَ شُهُوداً} أي: وجعلت له بنين حضوراً بمكة معه لا يسافرون، ولا يحتاجون إلى التفرّق في طلب الرزق لكثرة مال أبيهم.
قال الضحاك: كانوا سبعة ولدوا بمكة، وخمسة ولدوا بالطائف.
وقال سعيد بن جبير: كانوا ثلاثة عشر ولداً.
وقال مقاتل: كانوا سبعة كلهم رجال، أسلم منهم ثلاثة خالد وهشام والوليد بن الوليد، فما زال الوليد بعد نزول هذه الآية في نقصان من ماله وولده حتى هلك. وقيل: معنى {شهوداً} أنه إذا ذكر ذكروا معه، وقيل: كانوا يشهدون معه ما كان يشهده، ويقومون بما كان يباشره {وَمَهَّدتُّ لَهُ تَمْهِيداً} أي: بسطت له في العيش وطول العمر والرياسة في قريش، والتمهيد عند العرب التوطئة، ومنه مهد الصبيّ.
وقال مجاهد: إنه المال بعضه فوق بعض كما يمهد الفراش. {ثُمَّ يَطْمَعُ أَنْ أَزِيدَ} أي: يطمع بعد هذا كله في الزيادة لكثرة حرصه وشدة طمعه مع كفرانه للنعم، وإشراكه بالله. قال الحسن: لم يطمع أن أدخله الجنة، وكان يقول: إن كان محمد صادقاً، فما خلقت الجنة إلاّ لي. ثم ردعه الله سبحانه وزجره فقال: {كَلاَّ} أي: لست أزيده. ثم علل ذلك بقوله: {إِنَّهُ كان لأياتنا عَنِيداً} أي: معانداً لها كافراً بما أنزلناه منها على رسولنا، يقال: عند يعند بالكسر إذا خالف الحق وردّه، وهو يعرفه، فهو عنيد وعاند، والعاند الذي يجوز عن الطريق، ويعدل عن القصد، ومنه قول الحارثي:
إذا ركبت فاجعلاني وسطا ** إني كبير لا أطيق العندا

قال أبو صالح: عنيداً معناه مباعداً.
وقال قتادة: جاحداً.
وقال مقاتل: معرضاً {سَأُرْهِقُهُ صَعُوداً} أي: سأكلفه مشقة من العذاب، وهو مثل لما يلقاه من العذاب الصعب الذي لا يطاق. وقيل المعنى: إنه يكلف أن يصعد جبلاً من نار، والإرهاق في كلام العرب: أن يحمل الإنسان الشيء الثقيل، وجملة: {إِنَّهُ فَكَّرَ وَقَدَّرَ} تعليل لما تقدّم من الوعيد، أي: إنه فكر في شأن النبيّ صلى الله عليه وسلم وما أنزل عليه من القرآن، وقدّر في نفسه، أي: هيأ الكلام في نفسه، والعرب تقول: هيأت الشيء إذا قدّرته، وقدرت الشيء إذا هيأته، وذلك أنه لما سمع القرآن لم يزل يفكر ماذا يقول فيه، وقدّر في نفسه ما يقول، فذمه الله، وقال: {فَقُتِلَ كَيْفَ قَدَّرَ} أي: لعن وعذب كيف قدر، أي: على أيّ حال قدر ما قدر من الكلام، كما يقال في الكلام: لأضربنه كيف صنع، أي: على أيّ حال كانت منه. وقيل المعنى: قهر وغلب كيف قدر، ومنه قول الشاعر:
وما ذرفت عيناك إلاّ لتضربي ** بسهميك في أعشار قلب مقتل

وقال الزهري: عذب، وهو من باب الدعاء عليه، والتكرير في قوله: {ثُمَّ قُتِلَ كَيْفَ قَدَّرَ} للمبالغة والتأكيد. {ثُمَّ نَظَرَ} أي: بأيّ شيء يدفع القرآن ويقدح فيه، أو فكر في القرآن وتدبر ما هو.
{ثُمَّ عَبَسَ} أي: قطب وجهه لما لم يجد مطعناً يطعن به في القرآن، والعبس مصدر عبس مخففاً، يعبس عبساً وعبوساً إذا قطب. وقيل: عبس في وجوه المؤمنين. وقيل: عبس في وجه النبيّ صلى الله عليه وسلم {وَبَسَرَ} أي: كلح وجهه وتغير، ومنه قول الشاعر:
صبحنا تميماً غداة الحفار ** بشهباء ملموسة باسره

وقول الآخر:
وقد رابني منها صدود رأيته ** وإعراضها عن حاجتي وبسورها

وقيل: إن ظهور العبوس في الوجه يكون بعد المحاورة، وظهور البسور في الوجه قبلها، والعرب تقول: وجه باسر إذا تغير واسودّ.
وقال الراغب: البسر استعجال الشرّ قبل أوانه نحو بسر الرجل حاجته، أي: طلبها في غير أوانها. قال: ومنه قوله: {عَبَسَ وَبَسَرَ} أي: أظهر العبوس قبل أوانه وقبل وقته، وأهل اليمن يقولون: بسر المركب وأبسر أي: وقف لا يتقدّم ولا يتأخر، وقد أبسرنا أي: صرنا إلى البسور. {ثُمَّ أَدْبَرَ واستكبر} أي: أعرض عن الحقّ، وذهب إلى أهله، وتعظم عن أن يؤمن {فَقَالَ إِنْ هذا إِلاَّ سِحْرٌ يُؤْثَرُ} أي: يأثره عن غيره ويرويه عنه. والسحر: إظهار الباطل في صورة الحقّ، أو الخديعة على ما تقدّم بيانه في سورة البقرة، يقال: أثرت الحديث بأثره إذا ذكرته عن غيرك، ومنه قول الأعشى:
إن الذي فيه تحاربتما ** بين للسامع والآثر

{إِنْ هذا إِلاَّ قَوْلُ البشر} يعني: أنه كلام الإنس، وليس بكلام الله، وهو تأكيد لما قبله، وسيأتي أن الوليد بن المغيرة إنما قال هذا القول إرضاء لقومه بعد اعترافه أن له حلاوة، وأن عليه طلاوة إلى آخر كلامه. ولما قال هذا القول الذي حكاه الله عنه، قال الله عزّ وجلّ: {سَأُصْلِيهِ سَقَرَ} أي: سأدخله النار، وسقر من أسماء النار، ومن دركات جهنم. وقيل: إن هذه الجملة بدل من قوله: {سَأُرْهِقُهُ صَعُوداً} ثم بالغ سبحانه في وصف النار وشدة أمرها فقال: {وَمَا أَدْرَاكَ مَا سَقَرُ} أي: وما أعلمك أيّ شيء هي، والعرب تقول: وما أدراك ما كذا: إذا أرادوا المبالغة في أمره، وتعظيم شأنه وتهويل خطبه، وما الأولى مبتدأ، وجملة {مَا سَقَرُ} خبر المبتدأ. ثم فسر حالها، فقال: {لاَ تُبْقِى وَلاَ تَذَرُ} والجملة مستأنفة لبيان حال سقر، والكشف عن وصفها. وقيل: هي في محل نصب على الحال، والعامل فيها معنى التعظيم؛ لأن قوله: {وَمَا أَدْرَاكَ مَا سَقَرُ} يدل على التعظيم، فكأنه قال: استعظموا سقر في هذه الحال، والأوّل أولى، ومفعول الفعلين محذوف. قال السديّ: لا تبقي لهم لحماً ولا تذر لهم عظماً.
وقال عطاء: لا تبقي من فيها حياً ولا تذره ميتاً. وقيل: هما لفظان بمعنى واحد، كررا للتأكيد كقولك: صدّ عني وأعرض عني {لَوَّاحَةٌ لّلْبَشَرِ} قرأ الجمهور: {لوّاحة} بالرفع على أنه خبر مبتدأ محذوف.
وقيل: على أنه نعت لسقر، والأوّل أولى. وقرأ الحسن، وعطية العوفي، ونصر بن عاصم، وعيسى بن عمر، وابن أبي عبلة، وزيد بن عليّ بالنصب على الحال أو الاختصاص للتهويل، يقال: لاح يلوح، أي: ظهر، والمعنى: أنها تظهر للبشر. قال الحسن: تلوح لهم جهنم حتى يرونها عياناً كقوله: {وَبُرّزَتِ الجحيم لِمَن يرى} [النازعات: 36]. وقيل: معنى {لَوَّاحَةٌ لّلْبَشَرِ} أي: مغيرة لهم ومسوّدة. قال مجاهد: والعرب تقول: لاحه الحر والبرد والسقم والحزن: إذا غيره، وهذا أرجح من الأوّل، وإليه ذهب جمهور المفسرين، ومنه قول الشاعر:
وتعجب هند أن رأتني شاحبا ** تقول لشيء لوحته السمائم

أي: غيرته، ومنه قول رؤبة بن العجاج:
لوّح منه بعد بدن وشبق ** تلويحك الضامر يطوى للسبق

وقال الأخفش: المعنى أنها معطشة للبشر، وأنشد:
سقتني على لوح من الماء شربة ** سقاها به الله الرهام الغواديا

والمراد بالبشر: إما جلدة الإنسان الظاهرة، كما قاله الأكثر، أو المراد به أهل النار من الإنس، كما قال الأخفش. {عَلَيْهَا تِسْعَةَ عَشَرَ} قال المفسرون: يقول على النار تسعة عشر من الملائكة هم خزنتها. وقيل: تسعة عشر صنفاً من أصناف الملائكة. وقيل: تسعة عشر صفاً من صفوفهم. وقيل: تسعة عشر نقيباً مع كل نقيب جماعة من الملائكة، والأوّل أولى. قال الثعلبي: ولا ينكر هذا، فإذا كان ملك واحدة يقبض أرواح جميع الخلائق كان أحرى أن يكونوا تسعة عشر على عذاب بعض الخلق. قرأ الجمهور: {تسعة عشر} بفتح الشين من عشر، وقرأ أبو جعفر بن القعقاع، وطلحة بن سليمان بإسكانها.
وقد أخرج البخاري، ومسلم، وغيرهما عن جابر بن عبد الله أن أبا سلمة بن عبد الرحمن قال: إن أوّل ما نزل من القرآن: {يأَيُّهَا المدثر} فقال له يحيى بن أبي كثير: يقولون إن أوّل ما نزل: {اقرأ باسم رَبّكَ الذي خَلَقَ} [العلق: 1] فقال أبو سلمة: سألت جابر بن عبد الله عن ذلك، قلت له مثل ما قلت، فقال جابر: لا أحدّثنك إلاّ ما حدّثنا رسول الله قال: «جاورت بحراء، فلما قضيت جواري هبطت، فنوديت، فنظرت عن يميني فلم أر شيئًا، ونظرت عن شمالي، فلم أر شيئًا، ونظرت خلفي فلم أر شيئًا، فرفعت رأسي فإذا الملك الذي جاءني بحراء جالس على كرسي بين السماء والأرض، فحثيت منه رعباً، فرجعت، فقلت: دثروني فدثروني، فنزلت: {رَّحِيمٌ يأَيُّهَا المدثر * قُمْ فَأَنذِرْ} إلى قوله: {والرجز فاهجر}» وسيأتي في سورة اقرأ ما يدل على أنها أوّل سورة أنزلت، والجمع ممكن.
وأخرج الحاكم وصححه عن ابن عباس: {يأَيُّهَا المدثر} فقال: دثر هذا الأمر، فقم به.
وأخرج ابن جرير، وابن المنذر، وابن أبي حاتم، وابن مردويه عنه {يأَيُّهَا المدثر} قال: النائم {وَثِيَابَكَ فَطَهّرْ} قال: لا تكن ثيابك التي تلبس من مكسب باطل {والرجز فاهجر} قال: الأصنام {وَلاَ تَمْنُن تَسْتَكْثِرُ} قال: لا تعط تلتمس بها أفضل منها.
وأخرج الفريابي، وعبد بن حميد، وابن جرير، وابن المنذر، وابن أبي حاتم، والحاكم وصححه عنه أيضاً. {وَثِيَابَكَ فَطَهّرْ} قال: من الإثم. قال: وهي في كلام العرب نقيّ الثياب.
وأخرج ابن مردويه عنه أيضاً: {وَثِيَابَكَ فَطَهّرْ} قال: من الغدر، لا تكن غدّاراً.
وأخرج سعيد بن منصور، وعبد بن حميد، وابن جرير، وابن المنذر، وابن أبي حاتم، وابن الأنباري، وابن مردويه عن عكرمة عنه أيضاً أنه سئل عن قوله: {وَثِيَابَكَ فَطَهّرْ} قال: لا تلبسها على غدرة، ثم قال: ألا تسمعون قول غيلان بن سلمة:
وإني بحمد الله لا ثوب فاجر ** لبست ولا من غدرة أتقنع

وأخرج الطبراني، والبيهقي في سننه عنه أيضاً: {وَلاَ تَمْنُن تَسْتَكْثِرُ} قال: لا تعط الرجل عطاء رجاء أن يعطيك أكثر منه.
وأخرج ابن جرير، وابن المنذر، وابن مردويه عنه أيضاً: {فَإِذَا نُقِرَ في الناقور} قال: الصور {يَوْمٌ عَسِيرٌ} قال: شديد.
وأخرج ابن مردويه عنه أيضاً: {ذَرْنِى وَمَنْ خَلَقْتُ وَحِيداً} قال: الوليد بن المغيرة.
وأخرج الحاكم وصححه، والبيهقي في الدلائل عنه أيضاً: أن الوليد بن المغيرة جاء إلى النبيّ صلى الله عليه وسلم، فقرأ عليه القرآن، فكأنه رقّ له، فبلغ ذلك أبا جهل، فأتاه فقال: يا عمّ إن قومك يريدون أن يجمعوا لك مالاً ليعطوكه، فإنك أتيت محمداً لتعرض لما قبله، قال: قد علمت قريش أني من أكثرها مالاً، قال: فقل فيه قولاً يبلغ قومك أنك منكر له، وأنك كاره له، قال: وماذا أقول؟ فوالله ما فيكم رجل أعلم بالشعر مني لا برجزه ولا بقصيده ولا بأشعار الجنّ، والله ما يشبه هذا الذي يقول شيئًا من هذا، ووالله إن لقوله الذي يقول لحلاوة، وإن عليه لطلاوة، وإنه لمثمر أعلاه، مغدق أسفله، وإنه ليعلو وما يعلى، وإنه ليحطم ما تحته؛ قال: والله لا يرضى قومك حتى تقول فيه، قال: فدعني حتى أفكر، فلما فكر قال: هذا سحر يؤثر، يأثره عن غيره، فنزلت: {ذَرْنِى وَمَنْ خَلَقْتُ وَحِيداً}.
وقد أخرج هذا عبد الرزاق عن عكرمة مرسلاً، وكذا أخرجه ابن جرير، وابن إسحاق، وابن المنذر، وغير واحد.
وأخرج ابن جرير، وابن أبي حاتم، وابن مردويه عن عمر بن الخطاب أنه سئل عن قوله: {وَجَعَلْتُ لَهُ مَالاً مَّمْدُوداً} قال: غلة شهر بشهر.
وأخرج ابن المنذر، عن ابن عباس: {وَجَعَلْتُ لَهُ مَالاً مَّمْدُوداً} قال: ألف دينار.
وأخرج هناد عن أبي سعيد الخدري في قوله: {سَأُرْهِقُهُ صَعُوداً} قال: هو جبل في النار يكلفون أن يصعدوا فيه، فكلما وضعوا أيديهم عليه ذابت، فإذا رفعوها عادت كما كانت.
وأخرج ابن جرير، وابن المنذر عن ابن عباس: {عَنِيداً} قال: جحوداً.
وأخرج أحمد، والترمذي، وابن جرير، وابن المنذر، وابن أبي حاتم، وابن حبان، والحاكم وصححه، وابن مردويه، والبيهقي عن أبي سعيد، عن النبيّ صلى الله عليه وسلم قال: «الصعود جبل في النار يصعد فيه الكافر سبعين خريفاً، ثم يهوي وهو كذلك فيه أبداً» قال الترمذي بعد إخراجه: غريب لا نعرفه إلاّ من حديث ابن لهيعة عن درّاج. قال ابن كثير: وفيه غرابة ونكارة انتهى، وقد أخرجه جماعة من قول أبي سعيد.
وأخرج ابن أبي حاتم عن ابن عباس قال: {صَعُوداً} صخرة في جهنم يسحب عليها الكافر على وجهه.
وأخرج ابن المنذر عنه قال: جبل في النار.
وأخرج ابن المنذر عنه أيضاً في قوله: {لاَ تُبْقِى وَلاَ تَذَرُ} قال: لا تبقي منهم شيئًا، وإذا بدّلوا خلقاً آخر لم تذر أن تعاودهم سبيل العذاب الأوّل.
وأخرج عبد بن حميد عنه أيضاً {لَوَّاحَةٌ لّلْبَشَرِ} قال: تلوح الجلد فتحرقه وتغير لونه، فيصير أسود من الليل.
وأخرج ابن المنذر، وابن أبي حاتم عنه أيضاً: {لَوَّاحَةٌ} قال: محرقة.
وأخرج ابن أبي حاتم، وابن مردويه، والبيهقي في البعث عن البراء: أن رهطاً من اليهود سألوا بعض أصحاب النبيّ صلى الله عليه وسلم عن خزنة جهنم، فقال: الله ورسوله أعلم، فجاء جبريل، فأخبر النبيّ صلى الله عليه وسلم، فنزلت عليه ساعتئذٍ {عَلَيْهَا تِسْعَةَ عَشَرَ}.